أنا وطن الجراح
بقلم: محمد يوسف جبارين( ابوسامح).. أم الفحم..فلسطين
ذبيح أنا يا اخوتي . يحفرون الخنادق في وجنتي . يحزون السكين في رقبتي . يكسرون مني ضلوعي ، ويمزقون قلبي ورئتي وكبدي . دمائي تغطي وجهي وصدري ، يداي وأرجلي . أمشي أسبح في دمي ، ولا خل ، ولا قمر ، يأتي يزيح عني قاتلي ، ويوقف نزف دمي .
دمائي نازفة ، لا تكف عن النزيف . في كل يوم مذبحة ، ذبيح تلو ذبيح . لا يغادرنا يوم الا وحرارة الدمع من شدتها تكفي لتوقظ الرجولة من غفوتها ، في بلاد قيل لنا عنها ، بأن كل من فيها أخ لنا وصديق . لا يتوقف الموت عن حصاده ، ولا حفار القبور يكف عن حفره المأوى ، تلو المأوى ، لشهيد في أعقاب شهيد .
ملبدة سمائي بالغيوم السوداء ، فلا أرى فرجا ، لكن ذلك لا يعني أن رجائي انقطع ، أو صبري نفد ، فصبري لم يبلغه أحد ، ولا حد له مهما بلغت تعاستي وشقائي .
فما تمزق لحمي وعظمي ، الا لأني أمد الكرامة بالحياة ، لكي تعيش ، فمن ضرع الرجولة ، اعتادت أن تشرب حليبها ، وهذا أنا وحالي ، لا أكل ولا أمل ، فمهما اكفهرت أيامي واسود عيشي ، وارتفعت حرارة دمعي ، ونزف دمي ، فأنا كما أنا الرجولة ، لسان قضية المصير . لن يفلح الضغط علي ، مهما تعالى واشتدت شوكته ، ولن أفقد زمام السيطرة على ادارة دفة المصير .
لو أحكي قصة النزيف ، لا أتوقف عن السرد في مدة عام أو يزيد . أما ما شاهدته في الأقصى ، فلعلي أكتفي الآن بأن ألمس ما رأيته ، لأعود اليه تفصيلا مرة أخرى . كنت خاشعا في صلاتي ، وفي قلبي يتململ وطني وحبي لأهلي وشعبي ، أدعو الله ، أن يريحنا من الظلم وأن يتيح لنا ، أن نحيا أحرارا في أرضنا ، فاذا بهم يفتحون النار علينا . رصاصة استقرت في رأس صاحبي ، وهو راكع ساجد لله أمامي .. كانوا يطلقون النار علينا ، بلا داع ولا سبب ، سوى أن وجودنا في المسجد الأقصى ، ينشىء في وعيهم نوعا من الاحساس بفقدان السيطرة ، وهذا يستثير حنقهم ، ويستفز الغيظ في صدورهم ، ويومىء لهم بأن السيطرة على هذا المكان، وعلى القدس ، انما هي سيطرة في مرتبة الوهم الذي لن يتعدى حدود كونه وهما . أقول لكم بأني لم أعرف في قراءاتي كلها نظام حكم يفعل ما رأته عيناي ... اطلاق نار على مصلين ، وبقرار من أعلى مرتبة في الحكومة . رأيي بأن هذا هو أعلان الحرب على هوية المسجد الأقصى . بدأت معركة هوية هذا المكان . بدأت بأطلاق النار على هذه الهوية .
ارتفع النداء في رحاب الأقصى ، حي على الفلاح ، فلبيت نداء هويتي . كيف لا ألبي النداء ، وكينونتي نسيج هويتي ؟ . كيف أعرف نفسي ويعرفني صاحبي وأخي ، والناس كل الناس ، كيف يعرفون أنفسهم ، وبعضهم البعض ، أو يجتمعوا ويكون لهم كيان ، اذا لم يعرف أحد لأحد هوية . أنا مثل كل الناس الذين امتلأت أنفاسهم برائحة الوطن ، أعرف هويتي ، واني أحفظها بروحي ودمي .
المسجد الأقصى وطن ، هوية الوطن ، هويتي ، حاضري ومستقبلي ، قلب القدس ، يبوس ، ايلياء ، مدينة سالم ، عاصمة دولتي ، القادمة من روحي ولحمي وعظمي ودمي . لهذا يحاصرونني ، ويعلنون الحرب على عزتي وكرامتي ، ويسعون الى تدمير ارادتي ، وتحطيم اصراري على هويتي .
هويتي نور عيني وقلبي ، نبض حياتي وقمري وشمسي ، أرى بها كياني الآتي ، الذي لا أكف عن تشكيله ، في وعي ، وفي أرادتي ونشاطي .
يرتفع عندنا النداء ، في كل آن ، يعلو ويعلو في كل زاوية ومكان ، تنخلع القلوب للنداء . نداء ات من أعماق الزمان . نداء ينادي به المنادي في كل آن .. روائح الفجر هبت .. هيا الى القدس .. الى الأقصى ، حيث مواطىء أقدام التاريخ تحكي ، تقول : الى هنا جاء ويأتي كل من به قلب يحب الحياة ورفعة شأنها في أعظم درس .. من بين أنفاس الكرامة جاءوا ، وكل حبيب الى حبيبه يطير ، من حيث كان أو يكون ويأتي ، ترف قلوب الأحبة من شدة لوعتها ، فكيف اذا دق الأذى ، على عتبات الحبيب ، أو داهم باحاته بالعنف والرجس .
ينخلع قلب المحبين شوقا اليك – يا أقصى – وهذا الذي ترى منهم ، هو الحب الصادق الدافىء ، الذي لا يفتر ، فاذا حرارة الخشوع أمطرت دمعا بلل الساحات ، فان زنود الوفاء في دفع الأذى عن شموخ الأمويين ، وقد سال على جوانبها الدم .. دماء الوفاء توزعت في الساحات ، مثل قواوير الورد ، انتشرت ليحيا الجمال ويشقشق الأمل .
يزرع العاشق في أعماق اليأس وردا ، وذلك لكي ينمو الأمل ويعلو ويبزغ الفجر . فعهد المحب أذا ما أنخدش منه القلب طار اليه بالدواء يحميه ويحفظه . أواه كم تمنى المحب أن يكون هو الذي ينخدش ، أو اذا نال منه الأذى وهو يحامي عن قلبه فاضت مشاعره فرحا بالبذل الذي يبذله ، وكلما نزف الدم من الصدر أكثر غزارة ، فكلما كان زنده للأذى أدفع .
اذا سكب الأمويون في البناء ماء ، فانا قد بذلنا في صرح البناء ، من الدماء ما يزيد ويفضل ، أو جمعوا الحجارة لتأخذ في المكان المبارك مكانها ، فانا من اللحوم والعظام قدمنا ما يعلو بالبناء أعلى فأعلى ويجعله أفخم .
في روابينا الفتيات يحلمن بطفل يهبنه لصرحه الخالد فلعله يتحرر . أحلام الصبايا أن يرين البنين وقد سمو الى مرتبة الوفاء السامي الذي لا يعدله شيء ولا شيء منه أرفع .
عمر بن الخطاب زارنا والعهد باق ، تألفه كل الأنفاس ، وقد نذرت نفسها لتحرسه .
مشيت في رباك ، لا أعرف للدمع صمتا ، ولا لأنات القلب من خفوت . تاهت مني المفارقة في الحزن بيننا ، فكل شيء من حولي وأنا باكي ، كأني اذا نظرت في أحوالك ، عرفت كل شيء عن حالي .
حال هذا المسجد من حال أمة اذا هي نامت أمتدت أنياب الصغار لتنال منها ، وقد علا شخيرها في كل وادي .
أمة أكبرت الصغير وما أدركت ، بأن العصا اذا أهتزت عاد الصغير الى لعبته في اللطم على وجهه والبكاء على حاله .
تعرف العروبة على أي وجه تدير وجهها ، لكن البلادة لم تدع للكرامة وجها يحكي .
حالي من حالك ، وحالنا من حال الكرامة ، التي ندت عيناها على حال آل اليه عرب وأعراب .
رأيت الدمع في عينيها ، وقد جاءت تسألني ، أن أحمل عنها جرحها الدامي ، قلت لها هذا جراح الأقصى ، جرحي أنا ، وأنا حامله فهل في ساحات العرب غيري أنا وحدي يحمله .
أنا وطن الجراح وما حطمني جرح ، ولا مصائب الدنيا ، وأثقالها التي ناخ بها الزمان على أكتافي .
ذلك حالي وألأحزان قد رتعت في نفسي ، فلا تكف عن تقطيع أحشائي .
وسط النار أحيا ، وثغري يفتر عن أبتسامة ، تحكي للدنيا عن عذوبة غدي الآتي .
من ضرع الكرامة ارتويت ، فاشربي يا عزتي ، من عافية ريانة ، بحب الأقصى ، وهذا التراب الغالي . اشربي وقري عينا ، فهنا عافية ترتوي من عزيمة ، لو زرعوا الفأس في رأسها ، لنبتت مكان الفأس أحلام وآمال وصبايا وفتيان ، تقول بلا كلام ، أرض آبائي وأجدادي ، تراب أرض الاسراء والمعراج ، ترابك يا أقصى ، أغلى علينا من حياة تمر مر السحاب .
هو نبل الحقيقة التي ارتوت بها النفوس ، فلما داهمتها الأحزان ، تخرجت من بين دموعها ، وأصبحت صقورا ، لا يطفىء بريق عينيها موت ولا خوف ، ولا جعل أيامها ليلا كثير السواد .
مبلل أنا بالدماء ، وقد تسابقت مع دموعي ، في أيها يغسل جراحي .
وحيد أنا ، من لحمي أصنع الدروع لصدر أحبة ، أواه – يا أقصى – هل أقل من لحمي أقدمه لك درعا يق صدرك العاري .
آه يا درة الدرر ، ويا درة الشواهد وألأدلة والحقائق التي تضيء حقيقتي ، لترى الدنيا ما حل بي ، وكيف كان ذبحي ، وكيف تشكلت مأساتي .