اسرائيل والبحث عن الردع النووي
بقلم : محمد يوسف جبارين( أبوسامح)..أم الفحم..فلسطين
ولقد كتب الصحفيان البريطانيان ليونارد بيطون ، وجوهان مدكوس دراسة ، نشراها في كتاب ، وذلك في عام 1962 ، وعنونا كتابهما باسم ، يشير الى مضمون الكتاب ، وهو " انتشار السلاح النووي في العالم " .
وقد كان ليونارد الكاتب العسكري ل " الجارديان " البريطانية ، وأما مدكوس ، فقد كان الكاتب العلمي . وقد أفردا في كتابهما فصلا كاملا لاسرائيل ، ويبدو من خلال ما كتباه ، أن المفاعل الذي أقيم في النقب ، وقريبا من ديمونا ، والذي بات يتسمى باسم "مفاعل ديمونا" ، انما يجوز القول فيه ، بأن له قدرة تساوي 24 ميغاواط حراري ، وأنه من نوع معين ، من المفاعلات التي كانت فرنسا ، قد صنعته واستخدمته ، وذلك هو المفاعل الفرنسي (جي -1) ، أو يكون من جنس المفاعل الكندي (ن.ر. اكس ) ، أو من صنف المفاعل الهندي (س.ي.ر) .
وعلى المعلوم ، فان مفاعل الابحاث الكندي – الهندي (س.ي.ر) ، له قدرة حرارية ، مقدارها 40 ميغاواط ، وقد تم انشاؤه في بومباي في الهند ، وذلك وفقا لخطة كولومبو ، وكان بدأ تشغيله سنة 1960.
أما ( جي -1)، فقد تم تشغيله في فرنسا عام 1956، وبلغت قدرته الحرارية ، 40 ميغاواط ، وأنتج كيلوغراما واحدا من البلوتونيوم ، كل عام .
ويقرر الكاتبان ، بأنه حين اتضح في كانون أول من عام 1960، بأن الذي يجري بناؤه قريبا من ديمونا ، ليس الا مفاعلا نوويا ، فسرعان ما تكشفت كل الخصائص الأساسية ، لطبيعة ذلك المفاعل ، فوقوده من اليورانيوم الطبيعي ، والماء الثقيل لابطاء سرعة النيوترونات .
ولكي تتم ملائمة المفاعل ، لحاجات اسرائيل ، فقد أوصت لجنة الطاقة الذرية في اسرائيل ، بأن يكون تخطيط بناء مفاعل ديمونا ، مثيلا لخطة بناء المفاعل الذري ( يل-3) وهو مفاعل أبحاث ، كانت فرنسا ، في ذلك الوقت تشرع في بنائه ، في بريست ، ومن صفات هذا المفاعل أنه يعتمد الماء الثقيل كمبطىء .
وقد سارع - في ذلك الوقت – رأي في الأوساط الأميركية مفاده أن فرنسا ، سوف تزود قلب مفاعل ديمونا باليورانيوم ، على أن تستعيده ، بعد تشعيعيه ، وذلك للاستفادة منه في انتاجها لأسلحتها النووية ، الا أن الاسرائيليين أنكروا هذا الرأي بقولهم ، بأن تعهدا كهذا لم تعطه اسرائيل لفرنسا ، وحيث أن المفاعل ما زال في مراحل البناء ، فما زال هناك متسع من الوقت أمام الاسرائيليين لاتخاذ قرار بشأن الوقود . وما كان ذلك الرأي بلا بواطن ، ولا مقصود .
فالادارة الاميركية كانت أعطت لاسرائيل مفاعل البركة ، والذي راحت تبنيه في وادي الصرار ( ناحل سوريك ) ، وكان هذا المفاعل في سنة 1960 ما يزال في مراحل البناء ، ومشروع كهذا ، بذاته مدعاة استقطاب للطاقات العلمية الذرية لدى اسرئيل ، وهذه بعينها جاءت في علاقة مباشرة مع الأميركيين الذين منحوا هذا المفاعل ، وهذا وحده كان يكفي لمعرفة القدرات المتوفرة لدى اسرائيل في هذا المجال .
ومن هنا ، فان أهم ما انطوى عليه ذلك الرأي الأميركي ، هو أن مفاعل ديمونا فيما لو قام بناؤه ، فانه سوف يكون مقطوعا ، من أمامه ومن خلفه ، ما لم يكن هناك من يتعهد بأن يوفر له الوقود ، ليأخذه من بعد تشعيعه ليفاد منه ، وهذا الطرف ، لا بد من أن يكون فرنسا ، فهي التي أعطت المفاعل وهي التي تبنيه ، وهي الدائبة على حسم الخلافات بينها وبين الادارة الاميركية لصالحها ، بأن لا يعترضها أصدقاؤها وعلى رأسهم الولايات المتحدة ، وأن لا ينكروا حقها في بناء ترسانتها النووية .
فبذلك دلل ذلك الرأي على توجهات فرنسا ، وعلى ما هو أخطر منه في نظر الادارة الامريكية ، وذلك عدم اكتراثها ، وغياب الحذر لديها ، من مغبة المساهمة في انتشار السلاح النووي ، وفي ذلك اتهام صريح لفرنسا ، بأنها لا تحسن السلوك في أخطر المسائل العالمية .
وكان الرئيس الفرنسي ديغول ، بعد عودته الى سدة الحكم في فرنسا ، قد رفض أن يسمح للولايات المتحدة الأميركية ، بأن تنشر أسلحة نووية تكتيكية في فرنسا ، وأيضا أصر أن تستمر فرنسا في تطوير قدراتها النووية ، وأن تبتني لنفسها ، بنفسها سلاحا نوويا ، ليصبح في مدى الأيام قلب القوة الفرنسية الضاربة .
وهذا ما استدعى الادارة الاميركية الى تحريك الأمور في هيئة الأمم ، والى صدور قرار عن الجمعية العامة لهذه الهيئة ، وذلك في 20 تشرين ثاني 1959 ، يطالب فرنسا بالتوقف عن التجارب النووية التي تجريها في صحراء سهارا ، وقد صدر ذلك القرار ، بموافقة 51 عضوا واعتراض 16 عضوا ، وامتناع الستة عشر الآخرين .
وبرغم ذلك ، أجرت فرنسا عام 1960عدة تفجيرات نووية ، تراوحت قدراتها الانفجارية على النحو التالي : 60-70 كيلوطن ، 5-10 كيلوطن ، 2-3 كيلوطن .. ( كيلوطن تماثل ألف طن من المادة الانفجارية ت.ن.ت ) .
وهذا النجاح عزز الثقة لدى الاسرائيليين بالطرف الذي سوف يقيم لهم المفاعل في ديمونا ، وزاد من تعلقهم بالآمال التي يعقدونها على مفاعلهم ، ولكنه أغاظ الادارة الاميركية ، وأفرح ديغول ، الذي عبر عن ذلك باعلان ، قال فيه ، بأن ذلك النجاح انما كان ثمرة للجهد القومي الذي زاد في قوة الدفاعات الفرنسية والغرب عموما ، وبفضله تبوأت الجمهورية الفرنسية مقاما يتيح لها ويمكنها من التأثير على الدول الذرية ، في اتجاه نزع شامل للسلاح النووي ، وأيضا ديغول أرسل رسالة الى بييرغيوما قال فيها : " الفخر لفرنسا ، فبدءا من هذا الصبح ، فانها أكثر قوة وأكثر عزة ، ومن قبلي تحيات ، لكل الذين منحوا فرنسا هذا النجاح الباهر " .
وجدير بالذكر ، أن السخط الذي كانت تبديه بعض الدول الافريقية في أروقة هيئة الأمم ، وعلى الأخص منها غانا حيال انفجارات نووية تجري على أراضيها ، لم يجد له أحدا يرقى الى الاهتمام به .
ويبدو أن أحكام المقام الذي تبوأته فرنسا ، في ضوء تحولها الى دولة نووية ، وما كانت تصبو اليه من مرتبة دولية وجد ديغول ، أن الضرورة تقتضيه أن يجري تعديلا في سياسات فرنسا النووية ، وكان من ضمن ذلك ما له صلة بالمفاعل الذي تعهدت فرنسا أن تقيمه في النقب .
ففي 14 أيار من عام 1960 ، تلقت حكومة بن غوريون رسالة من ديغول ، يطالب فيها الحكومة الاسرائيلية ، بأن تعلن على الملأ عن مفاعلها ، وأنها توافق على جعل المفاعل تحت اشراف دولي .
وهذا ما دعا بن غوريون الى الحضور الى باريس ، وذلك في 13 حزيران ، لالتقاء ديغول ، فلعله يثنيه عن قراره .
وقد كانت ارادة ديغول حاسمة بهذا الشأن ، ولم يكن أمام بن غوريون ، بعد عودته من باريس الى اسرائيل ، وبعد مشاورات أجراها داخل الحكومة الاسرائيلية ، وداخل جهاز الأمن الاسرائيلي ، الا أن يقوم في كانون أول من نفس العام ، بارسال شمعون بيرس الى باريس ، وذلك لاستكمال ، ما لم يمكنه هو في غضون حضوره في باريس أن يتوصل اليه .
والتقى شمعون بيرس ، كوب دي مرويل وآخرين ، والتزم أمامهم بأن تقوم الحكومة الاسرائيلية ، بالاعلان عن المفاعل ، بأنه مفاعل أبحاث ، في مقابل استمرار المساعدات الفرنسية لاسرائيل .
وفي كانون أول ، نفس الشهر من نفس العام ، وتحت ضغط من ادارة الرئيس الاميركي ايزنهاور ، وجد بن غوريون نفسه ومعه وزير خارجيته غولدا مئير ، بصحبة موظفين أميركيين يساعدانهما في صياغة نص البيان ، الذي سوف يلقيه بن غوريون ، ويكشف فيه على الملأ ، عن طبيعة المفاعل .
لقد كانت الولايات المتحدة قريبة جدا من اسرائيل ، ومن مركز الأعصاب فيها ، وكان بمقدورها أن تلحظ وأن تستفسر وأن تعرف .
وليس يهمنا هنا في كثير أن نعرف كيف عرفت الادارة الاميركية بوجود مفاعل يتم بناؤه في النقب ، فسواء عرفت من طائرة الاستطلاع الاميركية يو2 ، أو من غيرها ، أو من فرنسا ، فلن يضيف هذا الأمر الى موضوعنا شيئا . لقد عرفت وهذا يكفي ، عرفت وسارعت مطلع عام 1960 الى احتواء الأمر كله ، سألت في فرنسا ، وسألت في اسرائيل ، وأنزلت ضغوطها هنا وهناك وسمع بن غوريون وغيره ، وأيضا غولدامئير ، من الادارة الاميركية كلاما واضحا ، لا لبس فيه ولا غموض ، ولا بالامكان ليه أو ثنيه ، ولا حتى تأويله على غير ما جاء عليه ، وكان الكلام على المفاعل وصيغة الكلام لم تكن معهودة من قبل . كان الكلام واضحا وله معنى مفهوم ، وهو أن تطوير قدرة نووية اسرائيلية لأغراض سلمية هو ما تؤيده وتدعمه الادارة الاميركية ، أما أن يكون تطوير قدرة نووية بغرض انتاج سلاح نووي أو امتلاكه ، فهذا ما تعترض عليه هذه الادارة ولن تجيزه .
وكانت لتلك الادارة دواعيها وقناعاتها ومبرراتها ، فمبدأ ايزنهاور الذي ينحو سياساتها في الشرق الأوسط ، هو مبدأ أصيل لا محيد عنه ، وذلك لأنه يعني أن تهيمن الولايات المتحدة على هذا الشرق ، وعلى هذه البلاد العربية الغنية بالبترول والتي وصفوها في داخل البيت الأبيض بأنها أرض قد تصادف وجود بشر عليها .
فكل ما لايدعم تحقيق هذه الهيمنة ، وكل ما يتشكل في شكل عقبة سوف تعيق ، أو عارض سوف يعترض ، فهو مرفوض ، ويولد في وعي هذه الارادة دافعا يدعو الى التصدي له أو تحييده جانبا ، وعزله وذلك الى أن تأتي فرصته ويتم التعامل معه .
وحيث أن اسرائيل ، قد تبندت بين عناصر القوة في الاستراتيجية الاميركية الموكلة باحتواء المنطقة العربية برمتها ، فليس أن تبني اسرائيل قدرة نووية تستطيع تطويرها ، وتحويلها في مستقبل الايام الى حال تقترب به من انتاج سلاح نووي ، ولكن لا تنتجه ، ليس هذا الذي استجمع الارادة الاميركية فاعترضت ، فهذا لا يقع خارج نطاق التسامح الاميركي مع حالة قد تغدو بمثابة " حالة خاصة " في كل ما يتصل بالدعم الاميركي القادم .
لقد كانت للادارة الاميركية حساباتها ، وموازينها الخاصة بها ، فانتاج اسرائيل لأسلحة نووية بالاضافة الى أنه سوف يقلل من تأثير الولايات المتحدة على حليفاتها الصغار ، فانه بالتأكيد سوف يؤدي الى " فقدان السيطرة " في منطقة ساخنة وهامة مثل الشرق الأوسط ، وفي مناطق أخرى من العالم ، وذلك يعني أن يكون مصير العالم خارج نطاق السيطرة الاميركية ، فهذا السلاح النووي ، اذا انطلق من عقاله ، فان أحدا لا يدري الى أين يؤول المصير .
المخاوف من انتشار السلاح النووي كانت كبيرة
وقد شهدت الجمعية العامة للامم المتحدة في جنيف ، في ذلك الوقت مداولات بهذا الشأن ، وقد كان قدح الكبار بعضهم ببعض ليس بسيطا ، فكل ألقى على الآخر تبعات ما تم انتشاره من ذلك السلاح في العالم .
وبرغم ذلك كانت الولايات المتحدة ومعها الاتحاد السوفياتي ، يعملان على اقامة نظام عالمي لمنع انتشار السلاح النووي في العالم . وذلك لينضاف هذا النظام الى الوكالة العالمية للطاقة الذرية التي كانت قد أقيمت ، وباشرت أعمالها منذ عام 1957 .
وكانت ادارة كنيدي ، ومنذ عام 1961 قد جعلت من العمل على منع انتشار السلاح النووي قاعدة مركزية في سياساتها الخارجية ، بل أولتها اهتماما لا يفوقه أي اهتمام واستمر هذا الحال على حاله في ادارة جونسون .
وفي عام 1963 تم التوقيع على " اتفاق الحظر الجزئي لاجراء تجارب نووية في الغلاف الهوائي " .
لقد أطلت المخاوف مكشرة عن أنيابها الرهيبة ، وبات الاحساس بالرعب من هذا السلاح ، يثير حساسية مشوبة بالحقد .
فأن تكون هناك دولة تحاول أن تبتني قدرة نووية ، وتأتي الادارة الاميركية اليها تريد أن تمنعها من ذلك ، أو أن تحتويها ، أو تحتوي مشروعها النووي لتضعها أو تضعه ، في النصاب الذي ترتأيه ، وترفض هذه الدولة الخضوع لارادة تلك الادارة ، فذلك معناه أن الحقد في داخل تلك الادارة ، قد بدأ يفتش له عن كوة يندلق منها على تلك الدولة وعلى مشروعها .
فهل تراهم المالكون لذلك السلاح تحولوا الى أسارى بيد تلك المخاوف ؟!
أم أن اسلوب استبداد وسيطرة ، قد أتاحه ذلك السلاح ، وانما هم يوظفون هذا الاسلوب في اغتنام فرص ما تهيأت لهم من قبل ؟!
البادي هو الاحساس بالخطر ، وهذا مبرر وسبب لذاك الاسلوب . والقلق على المصير حق مشروع ، وفقط أن يفهم هذا القلق ، قلق الآخرين على مصيرهم هم ، وهذا ما لا يتفق وذلك الاسلوب ، لأنه ينتزع منه شرعيته ، وهو لذلك قلق لا تستوعبه الادارة الاميركية ، ولا تفهمه ، وانما تفهم مصالحها ، وتوظيف ذلك الاسلوب ، وغيره من اساليبها في تحصيل هذه المصالح ، مثال ذلك مجال الصواريخ والمجال النووي ، وهما مجالان للبحث العلمي ، وكانت مصر قد شرعت بهما في أواخر الخمسينيات ، ومطلع الستينيات ، وكانا لما يتجاوزا بعد مراحل البداية ، ولكن الادارة الاميركية قامت اليهما تطوقهما وتضربهما وتنذر مصر شرا لا يطاق ، لقد حرصت الولايات المتحدة على تقويض مقومات أمن الجماعة العربية ، وهي ما زالت كذلك ، وما عنصر من عناصر القوة لأمن هذه الجماعة الا وتكيد له كيدا فظيعا .
ونلاحظ بأن هذه الدولة العظمى ، ما زالت تسعى الى السيطرة على هذه الكرة ، وبيدها أخطر سلاح في التاريخ ، وتملك منه ما به تستطيع ، لو شاءت ، ولن تستطيع ، أن تدمر العالم مرات ومرات ، ويكفي مرة واحدة .
ونلاحظ بأن هذا السلاح النووي ، قد رسب في سلوك الادارة الاميركية وأرسى فيها قناعة مطلقة ، وهي أن فقدان سيطرتها على ما تملكه من سلاح نووي ، وما لا تملكه ، انما يعني أن دبيب الكارثة بات مسموعا في البيت الأبيض ، وأن هذا الدبيب يعني أن الكارثة شدت رحالها الى الولايات المتحدة .
ونلاحظ في مباني الفكر التي نسجت سياسات نووية للولايات المتحدة أن بؤر التوتر ، في بقاع العالم المختلفة ، يجب أن تكون خالية من السلاح النووي ، وخالية حتى من امكانية انتاجه ، وهذه مهمة السياسة الخارجية للادارة الاميركية ، وهذه مهمة السياسية الخارجية ، وهذه المهمة الموكلة بتحقيق هذا الهدف مبررة ، بأنه اذا أصبح هذا السلاح في متناول " الصغار " ، وتم استحدامه أو التلويح به من جانب طرف ، ضد طرف آخر ، بالتهديد أو بالفعل ، فذلك يمكنه أن يسحب الكبار ، وعن غير رغبة منهم الى التورط ، بأخطر الأسلحة في نزاعات اقليمية ، فليس من مصلحة الكبار أن يمتلك الصغار سلاحا نوويا ، ومنعهم من امتلاكه هو جزء من أمن الكبار ، وجزء من سيطرة الكبار على مناطق العالم المختلفة ، والتفريط بذلك هو بعينه تفريط بهذا الأمن ، وفقدان لهذه السيطرة .
وكان يعني ترك اسرائيل مندفعة ، في استجلاب امكانيات البناء لقدرة نووية عسكرية ، معناه بث قلق حقيقي في دول المنطقة ، وايقاد اندفاع جارف نحو بناء مماثل ، وبفارق الامكانيات ، لا بد وأن يكون أضخم ، وهذا سوف يجعل المنطقة في مستقبل الأيام ، بؤرة توتر رهيبة تنذر بحرب نووية تجرف العالم معها الى الهاوية ، وأيضا ومن مسافات بعيدة من حافة الخطر والانزلاق الى حال كهذا ، فانها تغدو منطقة غير ميسورة الاحتواء وتصعب السيطرة عليها .
وهذا تعاقب حوادث وتطور منطقي ، ولكنه يتنافى ورغبات الولايات المتحدة ، بل وينسف مصالحها ، ويقضي على كل تأثير سياسي لها على هذه المنطقة ، وينطوي على خطر حقيقي يتهدد الولايات المتحدة نفسها ، واذن على اسرائيل أن تفهم ذلك وأن تعيه ، وأن تتحاشى الخلافات بين أهداف الاستراتيجية الاميركية ، وبين أهداف الاستراتيجية الصهيونية العالمية ، والتوافق بين هذه الأهداف وتلك ، هو الأجدر بالاهتمام والتأصيل ، واسرائيل من مصلحتها أن تكون بتفكيرها وقرارها ، حيث الالتقاء والاتفاق في طبيعة الأهداف ، وذلك ما يضمن لها الولايات المتحدة الاميركية أن تكون الى جانبها ، وليس فقط في قضايا الأمن ، بل في قضية وجودها كلها.
واما اذا حسبت اسرائيل بأنها بامتلاكها سلاحا نوويا تكون قد خرجت من دوامة الأمن مستقرا ، وأن العرب والمسلمين ، من حولها ، سوف يقولون في أنفسهم ، بأن اسرائيل بيدها سلاح نووي ، وما لنا من أنفسنا حول ولا قوة ، وليس لنا الا أن نقعد بعيدا عن مناهزتها ، فأي مناهزة لها من جانبنا سوف تميط علينا كارثة ، فلا يبقى منا سوى اشلاء ممزقة متناثرة في أرجاء بلادنا ، اذا حسبت اسرائيل هذا الحساب فقد أضلها حسابها .
فالسلاح النووي ليس مطلقا ، وليس بمكنته أن يحقق أمنا مطلقا ، فما هو بالسلاح الذي يجيز طلاقة القدرة في استعماله أو التهديد به ، عند كل سخونة للنزاع بين اسرائيل وجيرانها ، ولا حتى في حالات اندلاع حروب محدودة النطاق والأهداف .
ولو أن اسرائيل تستطيع استقطاب العلماء واستجماع المال ، واستجداء التكنولوجيا ، وتقدر على بناء ترسانة نووية تطال المنطقة العربية كلها ، فان هذه الترسانة لن يكون في مقدورها أن تردع العرب ، ولا أن تحجبهم عن حقوقهم ، وذلك لأن كرامتهم مجروحة ، والمهانة تفترش وجوه زعامتهم ، ومنهم حتى أولئك الذين توسدوا ، وتلحفوا الأجنبي ، وتنمطقوا بعناصر قوته ، فهذه الشعوب العربية ، برغم ما تبدو عليه من بؤس الحال ، فانها تعرف كرامتها ، وتعتز بماضيها الزاخر بالعزة ، وتريد مستقبلا مثيلا له .
ثم ان هذه الترسانة التي نفترضها تحت الحاح الحوار ، فبمجرد ظهورها حقيقة قائمة بالفعل ، فسرعان ما يتصدر الأمن الجماعي العربي أولويات القلق على المصير ، والتنبه الى الخطر ، والصحوة التي لا تهدأ ، وذلك في كل ركن من أركان الوطن العربي والاسلامي .
وسرعان ما يغدو الحاح الأمن عاصفا ، وموجها لكل الطاقات في اتجاه الخلاص من دوامة الأمن ، وقد تأزم حالها ، واضطرب بظهور " تلك الترسانة " .
وتغدو الوحدة العربية والاسلامية في حال مولود في بطن أمه ، وتوشك أن تدب قدماه على الأرض ، فتعرفه الدنيا ، وهي الوحدة التي يا طالما برمت بها اسرائيل ، ووجلت من سيرتها ، وخشيت على نفسها منها ، وعملت ضدها ، ورغرغ صدرها طربا بكل ما ابتعد بها عن ميلادها .. هذه هي الوحدة تدنو وتقترب ، ودنوها واقترابها يحصل بسبب الخطر الداهم الذي أنشأته اسرائيل في النفسية العربية والاسلامية .
فعلى اسرائيل أن تحاذر ، وأن تفهم خطورة نزعتها النووية ، على نفسها ، وعلى أصدقائها .
وأما اذا الظنون والحسابات الخطأ ، قد جعلت اسرائيل تتصور بأن السلاح النووي الاستراتيجي ، فيما لو أصبح في حوزتها ، فانه الرادع الذي به سوف يرتدع العرب ، ويكفوا عن أفكارهم وأحلامهم المستنبتة في أمخاخهم بأصداء تاريخ يرونه مجيدا ، فيقبلونها كدولة ، وكجارة جارت وتجور ، ويتعاونون معها مثل ما أن الدول تتعاون فيما بينها ، فان هذا يختلف ، ولا يدعو الى امتلاك سلاح نووي استراتيجي ، ولا يدعو الى تصنيعه ، حتى وان توفرت قدرة على ذلك ، والسبب هو أن العلاقات السوية بين الأسوياء ، لا تستوي ، ولا تنبض فيها حياة صحيحة تحت ظلال التخويف والاكراه .
ولعمري ذلك النوع من السلاح يشكل ضاغطا مرفوضا واكراها غير مستساغ ، ومبررا يحفز الى امتلاك مثيل له ، استقبالا لمواجهة لربما تنشأ عن تردي تلك العلاقات وتصدعها ، وذلك فيما لو كان لها أن تقوم .
وماذا تفيد قنابل النيوترون ومعها كل السلاح النووي التكتيكي في مواجهة الفلسطينيين ؟! فهؤلاء لن يكفوا عن مناهزة اسرائيل ومطالبتها بحقوقهم ، طالما أنهم في وضع الغرباء في أرضهم ، وفي وضع الغرباء في الغربة .
ان الفلسطينيين يديرون صراعا ، لا يسمح باستخدام سلاح كهذا ضدهم ، ولا التلويح به يمكنه أن يبني رادعا يرتدعون به ، وذلك لأسباب كثيرة ، ويعرفها الجميع ، ومن بين هذه الأسباب ، الجغرافيا ، وتوزيع السكان فيها ، فان لهما من الأحكام ما ينسف ذلك الردع ، وينسف ذلك الاستخدام ، ويحيل السلاح النووي ، فيما لو كان موجودا ، لدى هذا الطرف أو ذاك ، الى اضافة غير مرغوبة ، بل ومرفوض اقحامها كعنصر من عناصر الصراع الدائر بينهما .
وأما اذا هم قادة الأمن والسياسة في اسرائيل ، قد استأسرتهم هواجس وشكوك ومخاوف من زمن تجد اسرائيل نفسها فيه ، وقد أحاطت بها جيوش عربية من كل ناحية ، وفي مكنتها بالاسلحة التقليدية هزم جيش اسرائيل ، فان السلاح النووي بيد اسرائيل ، يغدو بمثابة الملاذ الأخير الذي تلجأ اليه اسرائيل ، فتدحر هذه الجيوش العربية ، وتبيدها وتحفظ وجود اسرائيل .
وبظني أن افتراض مشهد كهذا للتناحر ، انما يقام لاقامة مبرر لامتلاك سلاح نووي ، وهو مبرر ينطوي على خطأ في تقدير الأمور وحسابها . والمغالطة تكمن في ربط استخدام السلاح النووي بحفظ الوجود ، ولو قيل للردع المتبادل لاختلف شأن المغالطة التي أعنيها ، فثمة ظروف للمناحرة كالتي أوردها بن غوريون ، انما تنم على عقلية تشرتشلانية ، لم تسمح لها ظروفها ، بأن تفهم طبيعة السلاح النووي ، وقد رسب في وعيها ذلك السلاح كعنصر من عناصر القوة في الصراع ، ولكنه يمتاز بشدة الدمار الذي يمكنه أن ينزل في صفوف الخصم . ففي ظروف مشهد كذلك الذي ذكره بن غوريون وأوردناه ، لا يكون اختيار قادة اسرائيل بين الوجود أو عدمه ، وانما بين الكارثة وبين التنازل عن اسرائيل ككيان سياسي ، وهنا مؤشر أفعل التفضيل سوف يشير الى التنازل عن الكيان السياسي وحفظ الوجود بلا دولة ، وسقوط فكرة الاستخدام للسلاح النووي تكون واجبة ، والسبب هو أن استخداما كهذا سوف يقابل بالمثل ، ويصبح الاستخدام بذاته استجلابا للكارثة ، ولن يجيزوا لأنفسهم أن يكونوا سببا في تشكلها .
ثم ان العرب بكثرتهم ، وبسعة بلادهم ، لقادرون في لحظات حاسمة من التاريخ ، أن يستوعبوا ضربة نووية أولى تنزل بهم ، من جانب اسرائيل ، لكن مشكلة اسرائيل ، بأنها لا يمكنها أن تستوعب ردهم على ضربتها الأولى بضربة نووية مماثلة أو بأقل منها ، ومرة أخرى ، الجغرافيا ، والسكان ، وعلاقتهما بالأمن والعناصر اللازمة لتحقيقه .
وكذلك الردع ، فان له صلة وثيقة بالمقدرة على التحمل ، ولنفترض أن اسرائيل والعرب سوف يمتلكان في زمان قادم سلاحا نوويا ، ويتحقق فيما بينهما توازن نووي ،
وهنا فان الطرف الأقدر على التحمل ، فيما لو أبدى استعداده أن يتحمل ضربة من جانب خصمه الذي لا يحتمل ضربة مثلها ، فانه في لحظات الأزمات الفوارة لقادر على حرف ميزان الردع لصالحه ، وذلك فيما لو استطاع اقناع خصمه بأنه عازم بالفعل على تنفيذ تهديده ، واذا تم له تحصيل هذا ، فيمكنه عندئذ أن يملي شروطه .
ومن ذلك كله ، وعلى أي دائرة فكرية تدور ، وعند أي احتمال تتوقف ، وتتبصر الأمور وتحلل معتمدا الاسلوب العلمي في البحث في معقولية النزعة الاسرائيلية الى سلاح نووي ، فانك تصل الى أن فكرة الحاجة الى سلاح نووي لا تجد ما يبررها ، أو يدعمها ، ناهيك الى أن بناء مشروع نووي متكامل ، وبطاقات ذاتية ، وبهدف صريح ، هو تصنيع قنابل نووية ، في حد ذاته مشروع كبير ومتشعب الجوانب ، ويحتاج طاقات مادية وبشرية وعلمية هائلة .
والعلماء والفنيون ، لو وجدوا في فترة من الزمان ، فانهم بشر ، يهرمون ويموتون ، ولذلك ثمة مشروع ضخم كهذا يحتاج الى مؤسسات علمية توفر الطاقات العلمية ، والفنية على الدوام ، وذلك لكي تضمن استمرار المشروع النووي ، وتضمن امتداداته ، وأيضا هذا جانب يحتاج امكانيات مادية ضخمة ، ناهيك عن مشكلات المشروع النووي ، بدءا بمشكلة النفايات النووية ، ووصولا الى احتمالات تسرب الأشعة النووية ، في بلد صغير ، فحالة واحدة كهذه يكون لها آثارها الخطيرة جدا .
.................................................. ...........
ملاحظات ( توضيحات ) :
( 1 ) : لانتاج قنبلة نووية (أو سلاح نووي ) هناك حاجة الى مادة نووية انفجارية ، وفي هذه الحالة يتم تحضيرها من مادة اليورانيوم الطبيعي ، فهذا موجود في الطبيعة على شكل خليط من يورانيوم 238 بنسبة 99.3% ، ويورانيوم 235 بنسبة 0.7% ، ففي حال مفاعل نووي يمكن تشعيع اليورانيوم الطبيعي ( يتم استخلاصه وتهيأته على شكل قضبان توضع في قلب المفاعل ويتم تشعيعها بواسطة نيوترونات حرارية ، ومن ذلك يمكن استخلاص بلوتونيوم 239 ( ذرة يورانيوم 238 تبتلع نيوترون وتصبح بلوتونيوم 239 ) ، بواسطة تقنية خاصة بذلك ، والبلوتونيوم هذا هو المادة التي يراد الحصول عليها من اجل صناعة قنبلة نووية .
( 2 ) : وكذلك يمكن استعمال يورانيوم 235 في انتاج قنبلة نووية ، لكن طريقة استخلاص هذه المادة من اليورانيوم الطبيعي مختلفة ، فهناك عدة طرق ، منها تحويل اليورانيوم الطبيعي الى فلوريد اليوراينوم ( فلوريد يورانيوم 235 وفلوريد يورانيوم 238 ) وهو غاز ، وبتقنية معينة يمكنة فصلهما للحصول على فلوريد يورانيوم 235 ثم استخلاص يورانيوم 235 ، ومن التقنيات المستعملة هي طريقة الطرد المركزي( السنترفوجا ) ، التي شاع ذكرها في خلال الحديث عن العراق أو ايران ، وهناك طريقة ( الانتشار الغازي ) وما الى ذلك ، وهي تقنيات حين ذكرها ، تترافق مع كلمة تخصيب ، أو تثرية .