ملتقى الفيزيائيين العرب > منتديات أقسام الفيزياء > منتدى الفيزياء الكونية. | ||
الحضارة الاسلامية ونظريات الكون |
الملاحظات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
الحضارة الاسلامية ونظريات الكون
إن التدبر في الآيات الكونية يهدي إلى معرفة الحق عبر التوصل إلى كبرى الاكتشافات الكونية وهي تصور عظمة الله من خلال خلقه، ودعا الله الإنسان للتأمل في أسرار وقوانين هذا الكون، ولم يقم المولى عز وجل بالإشارة إلى أهمية التدبر في الطبيعة- أي السعي وراء العلم- فقط، بل دفع الإنسان وأمر العقل البشري إلى استخراج الحقائق الكونية وأسرار الخلق.
فهم العديد من العلماء الذين خاضوا في ميدان الكوزمولوجيا "دراسة الكون" أو علم الفلك "دراسة السماء" هذا المغزى وهذا الهدف ويمكن أن نستشهد هنا بعالمين، أحدهما مسلم من القرن العاشر الميلادي والآخر غربي من القرن السابع عشر عبر كلاهما عن نفس الفكرة القرآنية الآنفة الذكر، فهذا البتاني يقول: "إن علم الفلك يأتي في سلم الأهميات مباشرة بعد الدين وهو أعظم العلوم، إذ يحد العقل ويزين الفكر ويهدي إلى توحيد الله ومعرفة أعلى الحكمة والقوة الإلهية" وهذا دالمبير يقول: "إن كل من يستطيع تصور الكون من منطلق موحد يرى الخلق كله كحقيقة وضرورة واحدة". وقد فهم المسلمون هذا الأمر- بل نقول هذه الثورة الفكرية والعلمية التي أحدثها القرآن في البشرية - واتجهوا نحو علوم الطبيعة يحاولون استخراج القوانين والحقائق التي من شأنها أن تعرف الإنسان بخالقه أولا ثم بدوره - أي بمغزى وجوده - في هذا الكون، ولكن العقل المسلم بالرغم من ذلك وقع في متاهات أنسته الهدف الأساسي وأدخلته في اهتمامات ثانوية، إن لم تكن خاطئة تماما. فقد قضى المسلمون ما يقرب من أربعة قرون بعيدين عن هذه الدراسات الكونية الحقيقية، حيث اتسم القرن الأول من التاريخ الإسلامي بالاهتمامات السياسية "بناء الدولة، الفتوحات والدعوة إلى الله.." إن لم نقل بالخلافات السياسية والدينية "الفتنة الكبرى، تمرد معاوية، ظهور الخوارج ثم الشيعة، وغير ذلك.." ثم ظهر بعض من الاستقرار السياسي والاجتماعي مكن العلوم الشرعية من البروز خاصة منها الفقه وأصوله، وذلك خلال القرنين الثاني والثالث، ولم تبدأ النهضة العلمية - بالمعنى الحديث للكلمة - إلا في القرن الرابع للهجرة، إذ أثرت عوامل خارجية كترجمة أعمال الفلاسفة الهيلينيين والعلماء الهنود والشرقيين إلى العربية، وعوامل داخلية كالاهتمام ببناء حضارة عريقة وأصيلة إلى جانب محاولة فهم الآيات القرآنية وتفسيرها بدقة. أخطاء العلماء المسلمين ولكن هذه النظريات والدراسات الإسلامية سرعان ما انحرفت عن المنهج العلمي الصحيح وراحت تخلط بين مجالات الفيزياء وعالم الميتافيزيقا، مدخلة في تصورها للكون أفكارا مستوردة من الفلسفات القديمة " اليونانية والشرقية" والفلسفات الإسلامية المتطرفة "خاصة منها الصوفية" بما تضمنته من أخطاء عقائدية وعلمية. أيضا نود الإشارة إلى خطأ فادح آخر سقط فيه كثير من العلماء المسلمين "خاصة منهم المستحدثين" الذين أرادوا إثبات تطابق بين كتاب الله عز وجل والمعرفة العلمية الحديثة فخاضوا في القرآن وكأنه موسوعة علمية يراد منها فقط إيجاد قوانين الفيزياء والبيولوجيا وغيرها في آياته، وأخطر من ذلك أن معرفتهم وفهمهم للعلوم الحديثة كانا سطحيين، مما أدى بهم إلى ارتكاب أخطاء منهجية وعلمية ضخمة جدا، وخلاصة القول إن الاتجاه العلمي الجديد- مما سمي بميدان الإعجاز العلمي في القرآن " - لفت نظر الكثير من الأشخاص "وأكثرهم عاميون" ولكنه لم يضف شيئا إلى مجال التدبر في الكون والتعرف على الخالق عبر قوانين الطبيعة، بل بالعكس أدى بالمسلمين إلى نسيان هذا المقصد البشري الأساسي والأول. أما الخطأ الأخير الذي ارتكبه عدد كبير من العلماء وخاصة في الفترة الذهبية من الحضارة الإسلامية فهو اعتبار الطبيعة مجرد مجالات تدون فيها الحقائق المشهودة دون محاولة إيجاد قوانين رياضية توحيدية وتفسيرية تمكن العالم والبشرية من التعرف على المبادىء الكونية الأولية التي وضعها الخالق عز وجل، وراح العديد من هؤلاء العلماء يقومون بمشاهدات وأرصاد كثيرة، لا يمكن طبعا التقليل من أهميتها العلمية، ولكنها لم تتجاوز حد التدوين. نظريات العلماء المسلمين فيما يخص موضوعنا فإن أهم الكتب التي ترجمت وأثرت على النظرة الإسلامية للكون كتب "السماء" و"الطبيعيات" و"الكون والفساد" لأرسطو، التي جعلت مدرسة كاملة من العلماء المسلمين تعتبر آراء أرسطو المرجع الأساسي للفلسفة والعلم، ثم كتاب "المجيسطي" (من كلمة Mageste التي تعني "الكتاب العظيم") لبطليموس المتضمن لنظريته الكاملة لحركة الكواكب. ترجم كتاب بطليموس في عصر الخليفة المأمون "القرن التاسع للميلاد" الذي وعى أهمية الترجمة إلى درجة أنه كان يجزي كل مترجم بكمية من الذهب تساوي وزن الكتاب المترجم، وقد علمتنا كتب التاريخ أن المأمون اشترط في إحدى اتفاقيات الحرب مع إمبراطور بيزنطي أن يسلم له عددا كبيرا من المؤلفات والمراجع الموجودة آنذاك في إحدى المكتبات الرومانية. ويمكن الإشارة إلى أهم المترجمين الذين ساهموا في نقل المعلومات إلى العربية، وبالتالي في إقلاع النهضة العلمية الإسلامية: - بنو موسى، وهم ثلاثة إخوة في عصر المأمون اشتروا وترجموا مؤلفات إغريقية كثيرة في ميدان الفلك والرياضة والهندسة والميكانيك. - ثابت بن قرة "826- 901 " الذي ترجم العديد مـن الأعمال الهيلينية "بما فيها أعمال بطليموس وإقليدس وأرخميدس" وكذلك السريانية.وهناك مجموعة من العلماء تطرقوا بشيء من التفصيل إلى الكون من حيث خلقه ووجوده ماضيا وحاضرا، وسنرى أن النظريات التي قدموها كثيرا ما تنحرف عن المنهج العلمي، وخلطت بين الطبيعة وما وراءها، ولا نستغرب لأن من بين الأربعة الذين سندرسهم والذين اهتموا بالكوزمولوجيا لا نجد، إلا فلكيا واحدا بينهم هو البيروني. أ) نظرة البيروتي: لم يحظ البيروني أبوالريحان بن أحمد "973 - كبير من طرف 1051" "باهتمام كبير من طرف مترجمي عصر النهضة الأوربية ولذا لم تعرف أعماله العملاقة ومؤلفاته المهمة التي نذكر منها كتاب "الآثار الباقية عن القرون الخالية" و"تاريخ الهند" وكتاب " التفهيم"، وأخيرا "القانون المسعودي"، زيادة على كتاب أساسي ضائع سماه "الكتاب الشامل". أما عن نظرته إلى الكون فإنه كان لا يشك إطلاقا في الخلق من العدم، بل كان يردد كلية فكرة الإغريق أن الكون والزمن أزليان " قديمان" وأبديان، ولكن البيروني رأى أن معرفة زمن خلق العالم "أي عمر الكون" غير ممكنة للبشر لأن الخالق لم يقل شيئا عن ذلك في كتابه الكريم، ولأن الحضارات القديمة اختلفت كثيرا في تقديراتها لهذه المدة بل أعطت تسلسلات تاريخية "كتلك التي وردت في التوراة مثلا" لا يقبلها العلم، ثم ذهب البيروني إلى أبعد من ذلك فقال إن الزمن عند البشر لا يشبه الزمن عند الله (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) ولذا فمحاولة معرفة عمر العالم من المستحيلات. ورغم أن البيروني كان يعتقد أن قوانين الطبيعة لابد أن تكون ثابتة عبر الزمن- وتعتبر هذه الفكرة *الحضارة الإسلامية ونظريات الكون من المبادىء الأساسية للفيزياء الحديثة- فإنه كان يؤمن كذلك بدورية التاريخ ولكن مع تدهور الحالة المادية والمعنوية، وقد بنى رأيه هذا حسب كتاباته، على الملاحظة والمشاهدة العيانية. أما نظريته الكونية فكانت تشابه التصور اليوناني "أرسطو+ بطليموس" إلى حد بعيد أي الكون الكروي الشكل، الممركز عند الأرض والمشكل من طبقات مكونة من العناصر والصفات الطبيعية التي نص عليها أرسطو، فكان أبوالريحان يقسم الكون إلى قسمين "العالم الأعلى" (عالم النجوم والكواكب) و"العالم الأسفل " (العالم ما تحت القمرى) والمهم في الأمر أنه لم يأخذ بأي من النظريات الميثولوجية الهندية، مما يدل على قدراته التحليلية وطبيعته العلمية القوية. ب) نظرية ابن سينا: إن ابن سينا أباعلي الحسـن بن عبدالله (980 -1037) الذي لقبـه اتباعه بالشيخ الرئيس وحجة الحق، من أعقد الشخصيات العلمية في تاريخ الحضارة الإسلامية، فقد كانت فلسفته، خاصة في النصف الأول من حياته، متأثرة كثيرا بأرسطو وأفلاطون وكانت بعض مؤلفاته مثل "كتاب الشفاء" و"كتاب النجاة" تعتبر من بين تحف الفلسفة المشائية "الأرسطية" ولكن بعض النظريات خاصة منها الكوزمولوجية، اتسمت بتأثرات واضحة في تعاليم "العرفاء" ( Gnostics ) وأخيرا أبدى ابن سينا في كهولته وشيخوخته ميلا كبيرا تجاه الفكر والاعتقاد الصوفي كما ظهر خاصة في كتابه "منطق المشرقيين". ومن أهم كتبه المعروفة التي تطرقت لمسألة تطور الكون يمكن ذكر ما يلي: كتاب "المجموع" وكتاب "الحاصل والمحصول" (في 21 جزءا) و"قيام الأرض في وسط السماء" و"الأرصاد الكلية" و"القانون". وقد أظهر ابن سينا في كتاباته آراء معقدة إلى حد بعيد، بل كانت تصل إلى درجة التعارض فيما بينها أحيانا، إذ كان يصرح بأن هناك فرقا أساسيا بين الكائن الأعظم (أي الخالق) وبين الكائنات (أي المخلوقات)، ولكنه كان يعتقد كذلك أن الكون هذا فيض من الكائن، وكثيرا ما لوحظ ونوقش هذا التناقض في آراء ابن سينا، وكان الشيخ يصف خلق العالم كعمليتين متصاحبتين: تعقل وعلم لا متناهيان من طرف الذات الإلهية، وما ظهور الكون في نظر ابن سينا إلا تجلي علم الله الأبدي لنفسه. ثم قسم ابن سينا عملية الخلق إلى 4 أنواع: - الإحداث: وهو إيجاد الكائنات الحادثة "بعد أن لم تكن" الأبدية أو المؤقتة. - الإبداع: وهو الإيجاد بدون وساطة للكائنات الأبدية اللافسادية. - الخلق: وهو الإيجاد بواسطة الكائنات المجسمة أو بدونها. - التكون: وهو الإيجاد بواسطة الكائنات القابلة للفساد والزوال. ثم قسم الكائنات إلى 4 أصناف: الملائكة "الأجسام المحركة والمحركة من طرف الخالق" والأرواح السماوية "التي تقوم بدور الوساطة في عملية التحريك" والأجرام السماوية، والأجسام ما تحت القمرية "أي الأرضية". أما تصوره للكون فكان شبيها للنظرية اليونانية، إلا أنه اعتبر 9 كرات عوض الثماني الإغريقية "الأرض وما حولها من عناصر+ المدارات السبع للكواكب، إذ زاد ابن سينا واحدة لتفصل في ذهنه بين العالم الطبيعي والعالم الإلهي، وهذه الكرة مجرد سماء فارغة، ثم قرر الشيخ أن كل سماء يحكمها عقـل " intellect" أو مجموعة ملائمة تسيره روح أو مجموعة أرواح، والكل يخضع لكائن موجود في أعلى السلم مع إمكان الرحلة عبر الكون إلى العالم الغيبي!. |
#2
|
|||
|
|||
مشاركة: الحضارة الاسلامية ونظريات الكون
ج) آراء إخوان الصفا:
لا نعلم طبعا هوية كاتب أو كتاب "رسائل إخوان الصفا"ولم يتفق العلماء على تصنيفهم ضمن التيارات الفكرية فمنهم من ألحقهم بالمعتزلة "ابن القفطي" ومنهم من أتبعهم بالنصيرية "ابن تيمية" وكثير من ربطهم بالإسماعيلية لأن هؤلاء أبدوا تعلقا كبيرا بالرسائل، وقد اعتبر البعض رسائل إخوان الصفا محاولة تركيبية للفلسفة الشيعية مثلما قام الغزالي بمحاولة تحصيلية للفلسفة السنية، ذلك لأن الرسائل أتت على شكل موسوعة للمعرفة الإسلامية وجل علومها، متخذة نظرة عالمية شاملة. ولكن آراء إخوان الصفا في الكون تبدو لنا بعيدة عن التيار المعتزلي والعقلاني بصفة عامة كما تقربهم أكثر من الإسماعيلية والصوفية بسبب اعتبارهم للدلالة الرمزية للأعداد والأجسام الطبيعية، كما نستنتج من خلال نظرتهم للكون تأثرا عميقا بالحضارات القديمة. فإخوان الصفا يأخذون بالنظرة العضوية "الحيوية" للكون ويعطونها صيغة شبه صوفية وهي "وحدة الكون" (ونعلم أن ابن سينا وإخوان الصفا كانوا من بين المفكرين الأكثر تأثيرا على رواد الصوفية من أمثال ابن العربي الذي تتلخص نظرته الى الكون في العبارة "وحدة الوجود" أي وحدة الكون والذات الإلهية). كما ركز أخوان الصفا تصورهم للكون على الرموز العددية وأهمها الواحد الذي يمثل "الوجود" أم "الكائن" (الله) والصفر الذي يمثل اللانهاية، (ونتعجب لمثل هذه العلاقة الرياضية اللامنطقية التي تجعل الصفر يمثل ما لا نهاية) وهي الذات الإلهية بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ووضعوا صورة كاملة للعالم مبنية على الأرقام "من 1 إلى 9 إذ العشرة عودة إلى الصفر في نظرهم" تقوم هذه الصورة على الترتيب التالي (حسب الأهمية): 1- الخالق الكائن، وهو واحد بسيط أزلي وأبدي ودائم. 2- العقل، وهو من نوعين: فطري ومكتسب. 3- النفس، وهي من 3 أنواع: نباتية وحيوانية وعقلانية. 4- المادة وهي من 4 أصناف: مادة اصطناعية ومادة فيزيائية ومادة كونية ومادة أصلية. 5- الطبيعة وهي من 5 أقسام: العناصر الأربعة (التراب والماء والهواء والنار)+ الطبيعة السماوية "الأثير". 6- الجسم، ويتخذ أحد الاتجاهات الستة، أعلى، أسفل، أمام، خلف، يمين، يسار. 7- الكرات السبع المتضمنة للكواكب السبعة. 8- العناصر الثمانية وهي العناصر الأربعة مرفوقة بالصفات الأربع (الحر والبرد والرطوبة والجفاف). 9- أجسام العالم الأرضي: المعدنية والنباتية والحيوانية، كلها من 3 أقسام. ونلاحظ أن كل قسم من هذا الجدول الكوني المدهش يتضمن نفس العدد من الأصناف كالعدد الذي يمثل مرتبته في السلم الكوني، مما يوضح أهمية الأعداد في تصور العالم لدى إخوان الصفا. د) وجهة نظر ابن رشد: إن ابن رشد أبا الوليد محمد بن أحمد (1126- 1198) يعتبر من أعظم الفلاسفة المسلمين وأكثرهم تأثرا بأرسطو وقد لقب بالشارح لما قام به من شرح لمعظم كتب الفيلسوف اليوناني، منها- فيما يهمنا- كتب " السماء" و"الكون والفساد" و"الطبيعيات" وكتاب ابن رشد المعروف باسم "تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو" ويعرف ابن رشد خاصة بكتابه "تهافت التهافت" الذي رد فيه على هجوم أبي حامد الغزالي على الفلاسفة في "تهافت الفلاسفة"، ثم أظهر ابن رشد اعتزازه بالفلسفة الحقيقية "أي المشائية" وهي في اعتباره حق ولا يمكن أن تتعارض مع الشريعة لأنها حق كذلك، كما قام بالدفاع عن العقل ومكانته ووجوب اتخاذه أداة أولية في النظرة التحليلية. ولكن الفيلسوف يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يلح على وحدة العالم ويستنتج من ذلك أنه لا يمكن له ان يكون على غير ما هو عليه، فيرفض نظرية الخلق من العدم ما دامت الصورة لا تنفصل عن المادة وكلتاهما أزلية، أي بتعبير الفيزياء الحديثة ما دام هناك حفظ للمادة والطاقة. وهو تحليل منطقي غير أنه ينطلق من فرضية "أو مسلمة" خاطئة وهي قدم العالم، ومع ذلك فإن ابن رشد يعطي للكون بعدا تيليولوجيا أساسيا أي السير نحو هدف مرسوم، ولكنه يحاول في نفس الوقت الابتعاد عن التصور الأنطروبو مركزي إذ يرى أنه ليس معقولا أن نقول إن كل الطبيعة موجودة من أجل رفاهية الإنسان، ونفهم عندئذ لماذا عانى ابن رشد وفكره من هجومات كبيرة من طرف علماء الكلام، فذلك بسبب التعارض "الظاهر على الأقل" بين بعض آرائه وبعض الآيات القرآنية. ثورة القرن العشرين شهد القرن العشرون حدثين علميين من أهم ما عرفته البشرية هما وضع آينشتاين لنظرية النسبية "الخاصة ثم العامة" ثم اكتشاف هابل أن هناك مجرات مماثلة لمجرتنا وأن الكون كله في توسع مستمر وتبع ذلك وضع نظريات جديدة للكون ولتسلسله الفيزيائي عبر الأزمنة، وأهم هذه النظريات ما سمي بالانفجار الكبير، وقد استفادت هذه النظرية منذ وضع صيغتها الأولى في الثلاثينيات من التطورات الأخرى التي عرفتها الفيزياء، خاصة في المجال النووي والضوئي والكهرومغناطيسي، فتمكنت الفيزياء من تقدير عمر الأرض "والمجموعة الشمسية" بحوالي 4,6 مليار سنة وعمر الكون بحوالي 10- 15 مليار سنة وذلك بعدة طرق علمية ليس هنا مجال للتطرق إليها، وربما أهم من ذلك أن هذه النظرية أخرجت لنا صورة عن الكون تثق فيها الأغلبية الساحقة من العلماء رغم أنها مناقضة لكل التصورات القديمة فالكون الآن محدود العمر والحجم متغير ومتطور في حالته الفيزيائية وفي شكله، لا متجانس في توزيع المادة عبر فضاءاته، لا إقليدي الهندسة (فهو رباعي الأبعاد) وفي توسع مستمر. وقد وعى العلماء أن هذا التطور في التصور لدى البشر وكل هذه الاكتشافات العلمية تكاد لا تصدق، فقال مارتن شميث أحد كبار علم الفلك المعاصر إن ما يدهشه هو أن الكون مع بعد أطرافه "يقدر قطره بحوالي مائة ألف مليار مليار كلم " يمكننا التطلع إليه بالمشاهدة بمجرد استخدام عين "تلسكوب" لا يزيد قطرها على بضعة أمتار! وعن الجانب النظري قال ألبرت أينشتاين إن أغرب خاصية للكون هي أننا نتمكن من فهمه!. هذا لا يعني طبعا أننا تعرفنا على كل ما في الكون من أسرار. لا، فالعلماء لا يزالون يتساءلون عن تطور الكون المستقبلي، هل سيبقى في توسع أم سيتوقف أم يعود إلى عكس ذلك أي التقلص التدريجي إلى النقطة التي انطلق منها؟ كذلك ما زلنا نجهل الكثير عن توزيع الأجرام كالمجرات في السماء وكيفية تكوينها، ومسائل كونية أخرى وطبعا ما زلنا لا ندري أتوجد أجناس ومخلوقات مادية أخرى في السماء أم نحن وحيدون في هذا الكون الشاسع؟ وأن كلتا الإمكانيتين تشكل حالة مذهلة ليس فقط من الناحية العلمية بل الفكرية، كذلك فيما يخص مكانتنا في هذا الكون وعلاقتنا بالخالق، هل هي متميزة ومفضلة أم لا؟.. وأين العلماء المسلمون من كل ذلك؟. إن العلماء المسلمين باستثناء بعض الشخصيات "كالبيروني قديما ومحمد الغزالي حديثا" لم ينضبطوا بالمنهج العلمي الصحيح بل كانوا أحيانا يناقضونه بوضوح، ذلك لأنهم لم يعوا حقيقة كونية رئيسية وهي ان الطبيعة كلها بما فيها الأرض والسماء وما بينهما تحكمها قوانين وضعها الخالق ليسير عليها الكون، وأن هذا الإغفال نتجت عنه انزلاقات خطيرة كثيرا ما أخرجت أصحابها من المجال العلمي تماما، فقد رأينا أن ابن سينا وإخوان الصفا وكثيرين بعدهم اعتبروا الكون فيضا من الذات الإلهية، وأنه عملية تعقل من طرف الخالق لنفسه، وأن هناك نفسا كونية تحكم الأرواح المحركة للأجرام، وأن الرحلة عبر الكون إلى العالم الغيبي ممكنة! كما رأينا أن كوزمولوجيا إخوان الصفا تكاد تقتصر على صور من الميثولوجيا العددية التي نتجت من جهل الحضارات القديمة، ووجدنا أن ابن رشد الذي كثيرا ما دافع عن الفلسفة والعقل كان أيضا يقتصر في أغلبية الأحيان على تبني آراء سيده "أرسطو" حتى ولو كانت تتعارض مع الاعتقاد الإسلامي البديهي كمسألة قدم العالم والخلق من العدم، وغيرها، وربما يشفع لابن رشد أنه لم تكن له دراية كبيرة- بعلمي الفلك والفيزياء. ولكن الأمر أخطر من ذلك لأن هذا المرض "الخلط بين عالمي الغيب والشهادة (الطبيعة)" تفشى في الحضارة الإسلامية عبر العصور، فنجد أن ابن تيمية "1263- 1328" رغم عدائه للصوفية ورده العنيف على الحلاج وابن عربي وأصحاب نظرية "وحدة الوجود" إلا أنه هاجم الفلسفة والعقل والعلماء- بمن فيهم الفلكيون- واتهمهم بالزندقة والنفاق، إلى حد أنه نفى عن الفلكيين قدرة حساب مواقع الكواكب أو منازل القمر، وادعى أن الأجرام السماوية تتأثر في حركتها بدعاء المؤمنين ومثل ذلك! وقد سمعنا أخيرا خطبة لإمام "شاب" فسر الحر الذي شهدناه في سنة ماضية بعملية تنفس تقوم بها جهنم مرتين في السنة!. إن المنهج العلمي الصحيح وجد صعوبات كبيرة للانغراس في عقول العلماء المسلمين خاصة إثر الهجومات العنيفة التي تلقتها الفلسفة "بمعناها العقلاني" من طرف علماء الكلام، وما زلنا نلاحظ أثر هذا الصراع بين العلماء والمفكرين المسلمين بل نقول لدى الأمة جمعاء. نضال قسوم العربي |
#3
|
|||
|
|||
مشاركة: الحضارة الاسلامية ونظريات الكون
بوركت جهودك
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
انواع عرض الموضوع |
الانتقال إلى العرض العادي |
العرض المتطور |
الانتقال إلى العرض الشجري |
|
|